عندما يجتمع زعماء وقادة القرار الأول في كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية معا، فإن إحدى الكلمات الأساسية الرنانة التي يستعملونها لنقاش سياساتهم هي السعي من أجل عالم “تعدد الأقطاب”، ففكرة تعدد الأقطاب هي في حقيقة الأمر فكرة رغبوية في جزء منها، وذات بُعدٍ استراتيجي في جزء آخر منها. ومنذ سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق نهاية العام 1990، عاش العالم بأسره في قطب واحد، حيث باتت في تلك الفترة دولة واحدة تمتلك القدرة على استعراض القوة، وهي الولايات المتحدة الأميركية التي التقطت تلك اللحظات التاريخية وبدأت ببناء سياساتها الأحادية، بل وتنفيذ خططها العالمية على أرض الواقع في ظل غياب أي توازن للقوى. فيما بقيت روسيا الاتحادية والصين الشعبية تسعيان ومنذ عقدين من الزمن على الأقل لتغيير تلك المعادلة، ومن هنا انطلقت الرؤية الصينية الروسية للعلاقات المشتركة بينهما على كل الصعد لمواجهة القطب الواحد وتفرد الولايات المتحدة بتقرير مصير ومصائر العديد من القضايا الدولية المعاصرة. فروسيا الاتحادية والصين الشعبية تتحديان الآن حضور وسطوة الولايات المتحدة الأميركية تجاه قضايا بؤر التوتر في العالم، وتجاه حضورها في مسائل التجارة والاقتصاد الدولي.
إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت قد نشرت في كانون الأول/ديسمبر 2018 الماضي، وثيقة أسمتها “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، تلك الوثيقة التي قالت في إحدى صفحاتها: “الصين وروسيا تتحديان قوة وتأثير مصالح أميركا.. وثمة تحالف صيني روسي استراتيجي في طريقه للبروز على أرض الواقع؟”
وبالفعل، هناك إشارات قوية بدأت منذ عدة سنوات تشي بقيام تحالف روسي صيني على قواعد عمل جديدة مغايرة للتي سبقت تفكك منظومة حلف فرصوفيا للكتلة الشرقية (حلف وارسو)، في التنسيق والعمل السياسي، وتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية، وعلى صعيد النفط والغاز الروسي وبيعه للصين بأفضلية جيدة من حيث الأسعار. كما كان من أبرزها التنسيق العسكري، والتدريبات المشتركة التي حققت قفزات نوعية ومستجدة بين البلدين، وقد انتقل التنسيق في هذا الميدان باتجاه إجراء مناورات عسكرية دورية مشتركة، وضمنت هذه التدريبات استخدام صواريخ بالستية وصواريخ الكروز. وهنا لا يصعب الاستنتاج أن الدولة العدوة المفترضة في كل تلك المناورات كانت الولايات المتحدة الأميركية. وكان أول تدريب عسكري مشترك بينهما قد تم في العام 2003، ومنذ ذلك الحين، تم إجراء حوالي ثلاثين تمرينا عسكريا مشتركا.
لقد تصاعد التعاون العسكري بين روسيا والصين خلال السنوات الأخيرة، وكانت آخر مكاسب الصين من روسيا في هذا الإطار، هو نظام الدفاع الصاروخي أرض جو (أس400)، وهو ما سيضع كافة أرجاء جزيرة تايوان (الصين الوطنية) الواقعة تحت النفوذ الأميركي، ضمن مدى نظام الصواريخ الصينية الجديدة، وبالتالي ستتوسع مديات عمل الصين الشعبية نحو بحري الصين الجنوبي والشرقي. فالصين الشعبية تسعى لتحويل بحر الصين الجنوبي إلى بحيرة صينية، بينما تقف الولايات المتحدة الأميركية في وجهها في هذا المسعى الصيني، وتوفر بالوقت نفسه الحماية والتغطية السياسية للصين الوطنية (تايوان).
لكن، علينا بالمقابل، أن نشير إلى أن روسيا والصين لا تثقان ببعضهما البعض على طول الخط، بل وبينهما إرث كبير ومُعقّد من الخلافات النظرية (الفكرية)، والتي استعرت طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وفي أوج الحرب الباردة بين الكتلتين، لكن روح البراغماتية هي الطاغية الآن في العلاقات المشتركة بينهما، فلكل منهما مصالح متنوعة، لكنهما يسعيان لتنحية أي خلل في العلاقة بينهما عن الضجيج والحضور الإعلامي، ويفضلان المضي قدما بالتعاون العسكري، والاستثمارات الاقتصادية، والتجارة، وتنمية العلاقات الودية، مع سعي بكين لتنسيق خطط عمل ضخمة لتوحيد العالم عبر أحزمة وطرق بما يعود بالفائدة حتى على روسيا، وكل ذلك يُظهر للعالم أن الطرفين في حالة ممتازة.
إن ما تشترك به روسيا الاتحادية والصين الشعبية الآن، وإلى مديات بعيدة، يتمثل بمواجهة العدو، أو المنافس في أحسن الأحوال، وهو الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يعني أن مستويات التنسيق والعمل المشترك بين كل من بكين وموسكو ستزداد حضورا وملموسية على أرض الواقع في السنوات القادمة، وعلى كل الصعد. وقد تجلى التنسيق إياه راهنا، في تقاطع المواقف الروسية والصينية بشأن العديد من القضايا الدولية الساخنة الآن، ومنها الموضوع السوري، حين وقفت كل من بكين وموسكو في صف واحد، وتناغمت مواقفهما في مجلس الأمن، واتخذتا معا أكثر من مرة حق النقض، الـ”فيتو” المزدوج، بمواجهة مشاريع قرارات حاولت الإدارة الأميركية تمريرها في مجلس الأمن الدولي بالنسبة للموضوع السوري. كما الحال الآن في مستجدات الوضع في فنزويلا، تلك الدولة الواقعة في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، والتي تحظى حاليا بحماية سياسية من قبل موسكو وبكين، اللتين منعتا من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) من تمرير مشاريع قرارات أميركية أخيرة في مجلس الأمن بشأن فنزويلا ونظام الرئيس مادورو.
أخيرا، وكما هو وارد في وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، فإن هناك تحديدا لخمسة تهديدات ماثلة أمام الولايات المتحدة من وجهة نظر واضعي التقرير، وفق الترتيب التالي: الصين، روسيا، إيران، كوريا الشمالية، داعش. وقد اختلف الرئيس دونالد ترامب مع التقرير بخصوص الموضوع الإيراني، حيث يعتبر طهران العدو الثاني بعد الصين الشعبية، لذلك يعمل على احتواء ومراضاة كوريا الشمالية، من أجل التفرغ لمجابهة طهران. كما لا يرى في روسيا عدوا على طول الخط، بل شريكا ممكنا لتطويق الصين.
علي بدوان – الوطن العمانية