الدبلوماسية التركية تسعى في تموضع يائس لإنقاذ صفقة “أف – 35”.
يشهد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا برئاسة رجب طيب أردوغان صدمة خسارة لم يذقها منذ 25 عاما، منذ إعلان نتائج الانتخابات المحلية. وكانت بمثابة استفتاء على شرعية النظام التركي، حيث تكشف خسارة الحزب الحاكم لمدن كبرى كأنقرة وإسطنبول استياء الناخبين الأتراك من حالة الهون الاقتصادي والسياسي التي تعصف بتركيا.
أنقرة – كشفت الانتخابات المحلية الأخيرة، التي جرت آخر الشهر الماضي، عن مدى الاهتزاز الذي أصاب النظام السياسي التركي برئاسة رجب طيب أردوغان. ومُني حزب العدالة والتنمية بهزيمة قاسية وفق النتائج المؤقتة للانتخابات البلدية التي أجريت في 31 مارس بتركيا، حيث فقد كلا من أنقرة وإسطنبول، وهما المدينتان الرئيسيتان اللتان سيطر عليهما حزب العدالة والتنمية وأسلافه الإسلاميون على امتداد 25 سنة.
وعلى الرغم من أن حزب العدالة والتنمية خسر مدنا أساسية من بينها العاصمة أنقرة، إلا أن الرئيس التركي يسعى لممارسة ضغوط كبيرة حتى لا يخسر مدينة إسطنبول. وذلك بسبب رمزيتها الكبرى بالنسبة له شخصيا، فهي المدينة التي شهدت صعوده السياسي منذ أن كان رئيسا لبلديتها.
وقال الرئيس التركي، الأربعاء، إنه يتعين على السلطات الانتخابية إلغاء الانتخابات البلدية التي فازت بها المعارضة في إسطنبول، بذريعة وجود مخالفات تجعل الاقتراع مخالفا للقانون، ونقلت صحيفتا “صباح” و”حرييت” المقربتان من الحكومة عن أردوغان قوله “أثبت زملاؤنا كل هذه (المخالفات المزعومة). بالطبع، هذا يثير الشكوك. إذا أردنا اتباع نهج صادق، فيجب أن يؤدي إلى إلغاء الاقتراع″.
ومن شأن هذه التصريحات زيادة الضغوط على اللجنة العليا للانتخابات، بينما أعلن حزب العدالة والتنمية المحافظ الإسلامي الثلاثاء أنه سيدعو إلى إجراء انتخابات جديدة في إسطنبول.
وتكشف مجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن خسارة مدن مثل أنقرة وإسطنبول تعتبر “كارثة بالنسبة لماكينة أردوغان الحاكمة”. وتضيف المجلة أن هذه “الماكينة تستند إلى العشرات من الجمعيات الخيرية (داخل هذه المدن) ذات الميزانيات العالية، التي لطالما اعتبرتها المعارضة التركية بمثابة دولة موازية تستخدم لرشوة الناخبين وشراء ولاءاتهم”.
وجاء فشل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية كبيرا بسبب اعتبار أردوغان أنها ليست محلية بل هي معركة “حياة أو موت”. وتقول مجلة فورين بوليسي إن “خطاب أردوغان لم يكن يتحدث عن كيفية تعبيد الطرق نحو الحدائق الكبرى، بل عن كيفية تصويب هذه الطرق باتجاه الرقة ومكة وغزة”. وترى أنه “ليس غريبا أن هذا الخطاب لم يستهو الناخبين”.
تخبط السياسة الخارجية

إضافة إلى الوهن الاقتصادي الذي نتج عن أداء حكومة أردوغان، كشفت النكسة التي أصابت حزب العدالة والتنمية عن تصدّع داخل منظومة الحكم حيال خياراتها المتعلقة بالسياسة الخارجية للبلاد.
وأردوغان الذي وعد بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية القديمة للأتراك، يجد نفسه هذه الأيام في وضع ضعيف يحاول من خلاله استعادة زمام المبادرة في علاقات بلاده مع الشرق والغرب. ويرى هؤلاء أن الرئيس التركي فشل في الرهان على سياسة الابتزاز التي يمارسها بمقاربة ارتباط بلاده بروسيا، بزعامة فلاديمير بوتين، ومع الغرب، بزعامة الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب.
ويضيف المراقبون أن الدبلوماسية التركية تسعى هذه الأيام لتموضع يائس في محاولة لإنقاذ صفقة الطائرات العسكرية الأميركية “أف-35″. وعلقت الولايات المتحدة في بداية أبريل الحالي تسليم المعدات الأرضية المتصلة بتشغيل طائرات أف-35، المصممة للتواصل في الوقت الحقيقي مع الأنظمة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بما في ذلك الصواريخ الدفاعية. وتبدي الولايات المتحدة قلقا من أن تُستخدم تكنولوجيا أس-400 لجمع البيانات التكنولوجية عن الطائرات العسكرية التابعة لحلف الناتو.
وأعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الأربعاء، أنه إذا لم تستطع بلاده الحصول على هذه المقاتلات، فإنها ستلبي احتياجاتها في هذا المجال من طرف آخر، إلى حين صناعة مقاتلاتها بنفسها. وشدّد على أن “لغة التهديد في التصريحات الأميركية” ضد تركيا تضر بالصداقة بين البلدين. وقال الوزير التركي إن “هناك أنظمة صواريخ أس-300 لدى بعض دول الناتو.. وبالتالي فإن امتلاك أي نظام للدفاع الجوي لا يتعارض مع عضوية الناتو”.
وأكّد أن الولايات المتحدة لم تقدم ضمانة لبيعها تركيا منظومة الدفاع الجوي باتريوت. وأضاف أنه “إذا لم ترغب الولايات المتحدة في بيعنا صواريخ باتريوت، يمكننا مستقبلا الحصول على منظومة أس-400 ثانية، وعلى نظام دفاع جوي آخر”.
وتلفت مصادر دبلوماسية في العاصمة التركية أن موسكو وواشنطن تنظران بارتياب إلى محاولة أردوغان إمساك العصا من الوسط في تنظيم علاقة بلاده بالطرفين، وأن بوتين وترامب لا يستحسنان لعبة الرئيس التركي في كسب ود روسيا والولايات المتحدة بنفس المستوى من خلال إبرام صفقتين متناقضتين، واحدة لشراء منظومة الصواريخ الروسية أس-400، والثانية لشراء طائرات أف-35 الأميركية.
ورأى مراقبون أن الرئيس رجب طيب أردوغان يسعى لابتزاز واشنطن من موسكو ملوحا بالمضي قدما في الذهاب نحو التحالف مع روسيا. وقال أردوغان للصحافيين على متن الطائرة التي أعادته من موسكو، مساء الاثنين، إن تركيا قد تقدم موعد تسليم منظومة أس-400 الصاروخية الروسية المضادة للطائرات والمقرر في يوليو القادم، على الرغم من اعتراضات واشنطن الحادة. وأضاف أن “هذا الإجراء الذي اتخذناه حفاظا على أمن بلدنا لا يستهدف دولة ثالثة ولا ينقل حقوقنا السيادية إلى دولة ثالثة”.
وفيما ترى واشنطن وحلف شمال الأطلسي أن وجود الصواريخ الروسية لدى دولة عضو في حلف الناتو يشكل خطرا على أمن الحلف الاستراتيجي، وأنه لا يجوز أن تتعايش القاذفات الأميركية مع الصواريخ الروسية المصممة لإسقاطها، ترى موسكو أن المناورة التركية صوب روسيا تشوبها انتهازية هدفها تحسين شروط الشراكة مع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة، وتحسين وضع تركيا داخل سوريا في الحاضر والمستقبل، أكثر من رغبة استراتيجية تركية حقيقية لبناء تحالف استراتيجي نوعي مع روسيا.
ارتباك في الملفات العربية

يلفت خبراء في الشؤون التركية أن تصدع التفويض الداخلي التركي لأردوغان وحزب العدالة والتنمية وفق نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، انسحب على موقف الرئيس التركي حيال قضايا العلاقة مع الملفات الخارجية، ولاسيما تلك المتعلقة مع ملفات حيوية متعلقة بالأمن الاستراتيجي التركي، خصوصا في شمال سوريا.
ويقول مراقبون في روسيا إن أردوغان لم ينجح في انتزاع ما يطمح إليه في سوريا، ولم يجد أذنا صاغية لمطلبه بمباركة روسيا عملية عسكرية تركية تستهدف الأكراد المنخرطين داخل “قوات سوريا الديمقراطية” شرق الفرات، والتي تعتبرها أنقرة ذراعا سورية لحزب العمال الكردستاني في تركيا والمصنف إرهابيا.
وأضاف هؤلاء أن تصريحات بوتين كانت واضحة في الغمز من قناة التواجد التركي شمال سوريا وطموح أردوغان إلى توسعتها ونيل شرعية دولية لتركيا بداخلها. وقال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاثنين، عقب لقائه أردوغان، إنه من غير المقبول تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، والمهم سلامة أراضي البلاد.
وأضاف، خلال مؤتمر صحافي بعد المحادثات الروسية التركية “لقد اتفقنا مع السيد أردوغان، بالتنسيق مع الحكومة السورية والمعارضة، والأمم المتحدة، على المساهمة في إطلاق اللجنة الدستورية بأسرع وقت”.
ويعتقد محللون أتراك أن أردوغان يراقب بقلق فشل سياساته في العالم العربي ودعمه لتيارات الإسلام السياسي، وأن أنقرة تنظر إلى الهجوم الذي تشنه قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، بصفته تهديدا لمصالح تركيا في ليبيا، وتهديدا لنفوذ الميليشيات الإخوانية التابعة للتيارات الإسلامية والجهادية الأخرى التي تحظى بدعم تركيا وقطر.
وحذّر وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، الأربعاء، من خطورة العملية العسكرية الأخيرة على العاصمة الليبية طرابلس. وقال إن “الهجمة الأخيرة على العاصمة الليبية طرابلس، قد تزج بالبلاد في مأزق خطير جدا، ومن الضروري وقف الهجمات”.
ويخلص المراقبون في تركيا إلى أن أردوغان الذي يستكشف هذه الأيام هوامش المناورة التي ما زال يمتلكها في السياسة الخارجية، سيكتشف أن دول العالم، كما تركيا الداخل، قد أخذت علما بنتائج الانتخابات المحلية التركية الأخيرة بصفتها عنوانا لبداية تراجع أردوغان وحزبه الحاكم، على نحو لم يعد يسمح للرئيس التركي بتمرير أجنداته في مقاربته لدول العالم القريب والبعيد.