الجنازة حامية، والميت ليسَ أكثر من بوقٍ لأنظمةِ الإجرام والقتل بأطيافها المتعددة، أهمهما للوهابي السعودي سابقاً وللإخواني التركي لاحقاً.
فجأة أصبح ما يُسمى بالعالم المتحضِّر بأجمعهِ يهتمّ لمقتلِ أو اختفاءِ صحفي سعودي اعتاد بتغريداتهِ أن يمجِّد جرائمَ تنظيم داعش بحق الأبرياء في العراق وسورية، تُرى هل يدري ذاك المجتمع أن تغريدات جمال الخاشقجي هي اشتراكٌ غير مباشرٍ بالجريمة، وتحريضٌ على العنف يعاقَب مرتكبها وفق القانون الجنائي الفرنسي مثلاً بطريقةٍ متساويةٍ مع الفاعل؟
فجأة أصبح ما يُسمى بالعالم المتحضِّر بأجمعهِ يريد الحقيقة، لكن مهلاً أين سمِعنا هذا التعبير مسبقاً؟ ألسنا ومنذ أكثر من عقدٍ نجني ثمار الشوك الذي زرعهُ عندنا من يريدونَ البحث عن الحقيقة، لكن حقيقة عن حقيقة تختلف فـ«الدنيا دوارة»، والحقيقة التي يعتاش البعض على التجارةِ بها كانت بسبب مقتل أحد أهم أذرع «آل سعود» في المنطقة، أما الحقيقة الحالية فهي بسبب تورط «آل سعود» بالقتل، هم هكذا دائماً يصنعون لنا الوهم ويجعلوننا نتصارع على إثباتِ حقيقته، وفي أحيانٍ كثيرة نساعدُهم نحن على ذلك، كيف لا ونحن نمارِس أقوى أنواع السذاجة في الوقت الذي نعتقد فيهِ أننا نمارس أعلى درجات التذاكي، والأمثلة على ذلك كثيرة، أهمها:
عندما يتحول الإعلام التركي لمصدرٍ وحيد للمعلومة يبث أخباراً ومعلوماتٍ عن القضية ونسارع لتبنيها فإننا هنا نضع أنفسنا أمام تناقضاتٍ غريبة، لأن الإعلام التركي ذاته الذي نستند إليه كان ولا يزال ومنذ سنواتٍ ثمان يبث الأكاذيب ذاتها عن سورية ليخدم فيها سياسةَ نظام العدالة والتنمية الإجرامي، هو أساساً لم يعتد قول الحقائق فكيف أصبح بالنسبة لكثيرين من الذين يندرجون تحت مسمى «إعلام مقاوم» مصدراً صادقاً؟ تحديداً أن الروايات الذي ينشرها لا يشبهها إلا روايات إعلام النظام السعودي عن أن الرئيس السوري يعيش على متنِ بارجة روسية!
حتى عندما تحدث الإعلام التركي عن كذبةِ تقطيع الخاشقجي إرباً إرباً فهناك من بين الإعلام المقاوم من تبناها وبدأ يبني حواراتِه عليها، قد نتفهم ذلك تحديداً عند ذاك الإعلام المدعوم من دولةٍ تحالف تركيا وتعادي «آل سعود»، لكن أن يصبح هذا الأمر حالة عامة! هنا علينا أن نعيد حساباتنا، فلا تكرروا خطأ ليبيا، هل تذكرون التغطية الإعلامية لما سميتموها بمعارك «سقوط الطاغية»؟ كيفَ كانت أشبهَ بتغطيةٍ ساذجةٍ لجرائم الناتو في ذاك البلد الآمن انطلاقاً من حساباتٍ أضيق بكثير من البعد الإستراتيجي لانهيار دولة بحجم ليبيا؟
القضية هنا ليست اختيارنا أو تفضيلنا بين نظامين لا يقل أحدهما عن الآخر إجراماً، القضية هي عند من لا يزال يرى التركي حمامة سلام، وأبعدَ من مملكةٍ قامت على السيف وفتاوى التكفير، والهدف أن نتجاوزَ ما يمكن أن يشكل بالنسبة لنا منعطفاً دموياً آخر، هي أبعد من شعورِ من عاش ألمَ الحرب والدمار والذي لا يتمناه لأحد، القضية هنا ببساطة تنطلق من سؤالٍ بسيط:
هل نحتاج لفوضى خلّاقة جديدة بعد كل هذهِ الفوضات الخلاقة التي تضرب منطقتنا، وهل تظنون أن تلك الفوضى التي يرعاها نظام الإجرام العثماني إن طرقت باب المملكة ستقِف عند حدودها؟ هذه الكيدية ببساطة ليست أكثر من مسمارٍ جديد يُدقُّ في نعشِ هذا الشرق البائس وسط تهليلنا وترحيبنا، ليبقى السؤال الأساس ومن خلال وقائع الجريمة، أيهما أكثر استفادةً منها النظام التركي أم نظام «آل سعود»؟
نبدأ من النظام السعودي الذي لا يبدو بالمطلق أنه صاحب مصلحةٍ في قتلِ الخاشقجي أو إخفائِه وفي دولةٍ ليس له فيها صولاتٍ أو جولات يتمكن من خلالِها لفلفة القضية عند انكشاف أمرها، بل على العكس، قيامهُ بهذه الجريمة على الأراضي التركية هو أشبهَ بمنح عدوه اللدود انتصاراً مجانياً، والأهم من ذلك أن الهدف ليس بتلك الحساسية أو الخطورة التي تجعل منهُ هدفاً بغض النظر عن المكان، فقتل معارض لا يعني أنه لن يبقى هناك مكان للمعارضين السعوديين، وما حُكي عن أسرارٍ يمتلكها الخاشقجي تبدو مبالغات لا معنى لها، من أين له هذه الأسرار ولماذا لم يبح بها طيلةَ فترته السابقة من العيش في الكنف الإخواني القذر؟
أما المقاربة مع جريمة اختفاء المعارض السعودي «ناصر السعيد» في بيروت في العام 1979 فليست منطقية، لأننا أسأنا أولاً للسعيد عندما نفكر بمقارنته بمرتزق كالخاشقجي، وثانياً لأن «آل سعود» في لبنان كانوا وقتها يستطيعون فعل ما يشاؤون من جرائم، أخيراً فإن الحديث عن توريط أميركي لـ«آل سعود» بإعطائهم الضوء الأخضر لتنفيذ الاغتيال ثم فضحهم لجرهم وابتزازهم أكثر فهو كلامٌ أشبه بنكتةٍ سمجة، تحديداً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبتزهم جهاراً نهاراً، فلماذا يلجأ لطريقة كهذه مع التأكيد على فرضية أن مقايضة كهذه يمكن لها الحدوث مع النظام التركي.
منطقياً فإن «آل سعود» أكبر الخاسرين مما جرى لدرجةِ أنهم مضطرون اليوم للتحدث إلى عدوهم اللدود تركيا، بل إن أي نقاط سيخسرها «آل سعود» في هذا النزال هي نقاط تُضاف لعدوهم الوضيع النظام القطري.
من جهةٍ ثانية فإن النظام التركي يمتلك الكثير من المسوغات لاختلاق هذه الزوبعة، فما هي؟
أولاً: كسِب التركي من هذه العملية ضخاً إعلامياً هائلاً جعل العالمَ أجمَع يركز على قضية الخاشقجي، ويتناسى كل الجرائم التي ارتكبها النظام التركي بحقِ معارضيه، هكذا بلمحة عين تحول التركي من نظامٍ مجرمٍ وسفاح قام بقتل وسحل وتصفيةِ معارضيه، إلى شرطي يحاول البحث عن حقيقةِ قيام نظامٍ آخر لا يقل عنهُ إجراماً بتصفية معارضيه على الأراضي التركية، أين ذاك العالم الحر من اختطاف المطرانين «يوحنا إبراهيم» و«بولس يازجي» عبر المسلحين المرتبطين بتركيا، ربما لو أن النظام التركي نفسه أراد أن يخطِّط لخبطةٍ إعلامية تزيح عن كاهلهِ كل الجرائم التي يرتكبها، فلن يجدَ أفضل مما يقوم بهِ هذه الأيام.
ثانياً: إن هذه العملية ستسمح للنظام التركي بتسجيلِ نقطةٍ إضافية في صراعِ «الزعامة المذهبية» المزعوم مع النظام السعودي، هذا الصراع لا يبدو بأي حالٍ من الأحوال أنه متعلق بالصراعِ القديم الجديد المتمثل بأحقية وراثة السيطرة على الأماكن المقدسة، لكنه في الوقت ذاته يتعلق بالحالة الخليجية بشكلٍ عام، فالنظام التركي الذي تمدَّد في قطر بات اليوم يتمدد في الكويت، وإن كان من الواضح أن حدوده ستقف هنا على اعتبار أن باقي المشيخات عصية عليه، وسلطنة عُمان بحد ذاتها شكلت حالة استثنائية من الاستقلالية وعدم التبعية لـ«آل سعود»، لذلك فإن النظام التركي بكل الأحوال يريد جرهم نحو الكثيرِ من التفاهمات أو الانفلات الذي سيضمن وصول الإخوان المسلمين إلى سدةِ الحكم الحجازية يوماً كبديلٍ مقترحٍ للإدارة الأميركية.
ثالثاً: الضرب على التقارب الروسي السعودي، وهو ليس مرتبطاً بالعلاقة بينهما فحسب لكنه مرتبط بالسعي الروسي لمصالحةٍ بين «آل سعود» والقيادة السورية، بالمطلق يبدو أن المتضررين من تقارب كهذا كثُر ولعل النظام التركي أكثرهَم تضرراً، ربما قد تكون هذه العملية بمسعى أميركي لما يمكننا أن نسميهِ «فركة أذن» للنظام السعودي، والمدقق بالتفاصيل يرى أن الروسي فعلياً صامت حيال ما يجري، فهل هو صمت المقتنع بالرواية التركية، أم صمت الذي يمتلك الكثير من المعطيات لكنهُ سيخرجها بالوقت المناسب؟
رابعاً: نجح النظام التركي بخلقِ صخبٍ إعلامي مرر من خلالهِ انكسارهُ وخضوعه أمام الأميركيين في قضية إطلاق سراح القس الأميركي أندرو برانسون، فبطولات أردوغان وحديثهِ عن «عدم الخنوع» في قضية القس الأميركي ذهبت أدراج الرياح، بل إن الحديث اليوم بات حولَ نزاهة القضاء التركي نفسه الذي أطلق سراح القس الأميركي مع العلم أنه لا يزال هناك ما يقارب العام لانتهاءِ محكوميته، ويا للمفارقة أن القضاء ذاته الذي أخرج القس الأميركي بصفقةٍ سياسية، يحقق ويوزع الأدلة الهوليودية على «الواشنطن بوست» وغيرها في قضية الخاشقجي، فماذا ينتظرنا؟
تُعلمنا تجارب التاريخ أن الاغتيالات والتصفيات الجسدية تبقى خارج نطاق الحقيقة، ربما هي أقرب للدخول في البازارات السياسية والاقتصادية، أما التخريجة التي ستنتهي بها هذه القضية فهي حُكماً ليست مرتبطة بقدرة السعودي على الدفع للإفلات من العقاب، أو بقدرة التركي على الابتزاز فكلاهما في التبعية واحد، بل القضية مرتبطة حُكماً بما يريدهُ الأميركي، فهل هو فعلياً يريد إطلاق رصاصة الرحمة على مملكة آل سعود؟
واهمٌ من يظن ذلك، ربما قد يطلق رصاصة الرحمة على طموحات ولي العهد محمد بن سلمان، فما من عاقلٍ يتوقع أن يكسرَ ترامب صحناً يأكل منهُ مالذ وطاب، قد يعيد غسلهُ وتنشيفهُ لكنه حُكماً لن يكسرهُ، وعليهِ تبدو العملية استثماراً تركياً نجحوا من خلاله بقلب الكثير من الحقائق لا أكثر.
فراس عزيز ديب – الوطن السورية
Discussion about this post