لم يحدث أن شهدت سورية سجالاً على جميع المستويات بما فيها الشعبي والرسمي كالذي أحدثهُ ما بات يعرف بـ«المرسوم 16»، هذا السجال كان متوقعاً إن كان لجهةِ رفض المرسوم أو قبوله، وإن ادّعى البعض أنه تفاجأ بردةِ الفعل تلك، دون إغفالِ بديهيةِ أن بين هذا وذاك يطل برأسه بعض الذين يريدون استخدام هذا السجال كأداة لمآرب فتنوية، لكنها حكماً ستفشل، فمن أفشل خلال سنوات ثمان كل هذا الكم من التحريض الدولي لن يكترث لبعض العلقات المتطفلة، وبالتالي فإن هذا حالةٌ صحية تحديداً إذا ما أحسنّا التعاطي معها، لأن تبادل الاتهامات لا يأتي بنتيجة، فليس كل من اعترض على المرسوم جاهلاً ومرتبطٌاً بأجندات أجنبية، وبالوقت نفسه فالمرسوم ليس دعوةً لأخونةِ سورية.
ربما كان من المفترض أن يكون الظهور الإعلامي المتأخر جداً لوزير الأوقاف عبد الستار السيد سبباً لوقفِ هذه السجالات، لكنها للأسف جعلتنا نطرح أسئلة بعيداً عن تفصيلات المرسوم لكونه سيناقش في مجلس الشعب، مع التمني أن تكون جلسات نقاشه علنيةً وليست بعيدةً عن الإعلام، بل إن الحديث في هذا المقال سأختصرهُ حول ما قاله الوزير بما يتعلق بالمرسوم والذي يمكن تجزئتهُ لثلاثة محاور أساسية:
أولاً: قانون التوقيت الخطأ؟
نعرف أن سورية اليوم تدخلُ مرحلةً متجددة تتطلب تحديثاً للتشريعات والقوانين بما فيها القوانين التي تحمي المواطنين من الأذيين الجسدي والنفسي، ولعل الخطر التكفيري هو الوحيد القادر أن يجمع كلا الأذيين في فتوى واحدة.
من هذا المنطلق بدا التسويغ الذي قدمه وزير الأوقاف لازماً لكنه ليس كافياً، فهو قال حرفياً إننا بحاجة لنتطور ولا يمكن العمل بقانون صدر منذ عام 1961، هذا الكلام يبدو جميلاً لكنه بالوقت ذاته يبدو أرضية لنقاش منطقي أساسه: إذا كان تطبيق قانون صدر في عام 1961 يعوق حركة التطور، فماذا عن القوانين ومصادر التشريع والتفسيرات والاجتهادات والفتاوى التي يزيد عمرها عن 1000 عام، لماذا هناك من يصر على استخدامها والتمسك بها وإعطاء مصادر التشريع تلك قيمة دستورية لا يمكن الخروج عنها حتى فيما يتعلق بأقل البديهيات كزواج القاصرات.
في سياق آخر فإن تسويغ هذا التوقيت بذريعةِ أن القانون حاجة للوقوف بوجهِ التطرف الوهابي والإخواني هو بالنهاية هروب بمظلة الحرب على الإرهاب، لا يشبهها إلا الهروب بمظلة «تجديد الخطاب الديني» يضع المؤسسة الدينية بموقف لا تُحسد عليهِ وبمعنى آخر: الوهابية لم يخترعها الإرهابي «محمد بن عبد الوهاب»، بل هي بالأساس استندت إلى أمرين: تحجيم القرآن الكريم وتقديمه قاصراً عن إيجاد حلول لكل المعضلات الفقهية، والاستناد لفتاوى واجتهادات وأحاديث ما زال البعض حتى يومنا هذا يمنع انتقادها، أي إننا إن أردنا التخلص من البعوض الوهابي فعلينا تجفيف المستنقعات التي تغذى منها، فهل الحرب على الوهابية التي أعلنتوها ستتضمن حرباً على المصادر التي ارتكزت عليها الوهابية؟!
أما الحديث عن تجريمِ الإخوان المسلمين فمن قال إن سورية تنتظر هكذا قانون لتجرّم الفكر الإجرامي للإخوان المسلمين؟ مع التأكيد أن هذا الفكر بات معزولاً حتى في بعض الدول التي لا تمتلك أساساً تنوعاً دينياً.
القانون 49 لعام 1980 جرَّم الانتماء لهذه العصابة وهذا لا علاقة للأوقاف به، أما الحديث عن «فكر» الإخوان المسلمين فإن السيد قطب كذلك الأمر، لم يخلق فكرة الإخوان المسلمين، هو فقط قام بتطويرها انطلاقاً من فكرة «الإسلام السياسي» الذي وُجد منذ ما بعد عهد الخلفاء الراشدين، رضوان اللـه عليهم، أما النقطة الأهم فإن الحرب على سورية عمرها ثماني سنوات فأين كانت وزارة الأوقاف من كل ذلك، ولماذا انتظرنا أربعين عاماً منها أكثر من عشر سنوات لوجود الوزير، كي نقرر أن نحارب هذا الفكر؟
جميعنا يريد فعلياً أن تتم تصفية الفكر المتطرف بما فيه الفكر العلماني المتطرف، والقومي المتطرف والديني المتطرف، لكن هذه التصفية لا يجب لها أن تكون شعاراً براقاً فحسب، بل يجب أن تفتح أبواباً أولها تقديم العقل على النقل!
ثانياً: من المسؤول عن تسريب نسخ مختلفة من القانون؟
في واقعِ الأمر هناك حلقة مفرغة لم يتمكن المواطن العادي حتى الآن من إيجاد حلّ لها، فوزير الأوقاف أكد في حديثهِ الأخير أنهم لم يرسلوا نسخة من القانون إلى مجلس الشعب لأنه ببساطة ليس عملهم، لكن كيف أصبح للقانون عدة نسخ شبه متشابهة؟
بغض النظر عن السرعة التي تم فيها تداول العديد من النسخ، فمن يدقِّق بكلتا النسختين فلن يجد الكثير من الفروقات بعيداً عن «ولدنات الفيسبوكيين» وما تمت إضافته من بنود تبدو فعلياً غير منطقية، فإن النائب الذي كان سبباً في تسريب نبأ وجود هكذا قانون تحدث بطريقة وكأنهُ فعلياً اطلع على القانون، أكثر من ذلك فإن نائباً آخر كان قد كتب على صفحتهِ الشخصية منشوراً أكد فيه أنه فعلياً حصل على نسخة من القانون عن طريقِ أحد النواب الذي هو شقيق وزير الأوقاف، هنا فإن من يتحمل مسؤولية هذا اللغط ليس المواطن العادي وليس من اعترض، من يتحمل المسؤولية فعلياً غياب الشفافية الذي زاد الطين بلة في تخوفات الرافضين، لأنهم ببساطة وجدوا في هذا الأسلوب المتعمد بضياعِ الحقيقة سبباً آخر لتزايد تخوفاتهم، فكيف حصل البعض على نسخ من القانون ومن أمر بتوزيعها؟ هل هناك من تعمّد توزيع النسخ التي فيها تحريف للظهور بمظهرِ البطل تماماً كمن يتعمد نشر فيديوهات لأحد الشيوخ وهو يلقي خُطباً فوضوية، هل إن كل ما يجري هو فعلياً صدفة، وإذا اتفقنا على حسن النية فلماذا علينا أن نلوم الضحية الذي هو المواطن؟ ماذا سيتحمّل هذا المواطن ليتحمل!
ثالثاً: بين الفريق الديني الشبابي والمجلس الفقهي
دائماً ما كانت حالة الفريق الديني الشبابي مثار تساؤلات لدى المواطنين، حاول وزير الأوقاف في حديثهِ إيجاد أرضية قانونية لهذا الفريق في المرسوم الجديد، هذا حقه فمن المفترض أن هذا المرسوم سيغطي كل الجوانب الناظمة لعمل الوزارة، لكن ماذا عن الفريق الديني الشبابي قبل صدور هذا المرسوم؟
الوزير قال إن هؤلاء موظفون في الوزارة ويتبعون لإحدى الشعب التي تُعنى بالإرشاد، لكن إذا كانوا موظفين فعلى أي أساس قانوني استند الوزير عند تشكيل هذا الفريق، وهل يوجد ضمن النظام الداخلي للوزارة ما ينص صراحةً أن أعضاء الفريق الشبابي يجتمعون لانتخاب رئيس لهم؟ حسب معرفتنا المتواضعة فإن إدارات الدولة تتم تسمية أصحاب المناصب فيها ولا يجري انتخابهم إلا إن كان هذا الفريق أساساً تم تشكيلهُ من خارجِ النظام الداخلي للوزارة، بمعزل عن دور هذا الفريق الذي لن نخوض فيهِ.
حال هذا الفريق لا يختلف كثيراً عن حال ما يسمى «المجلس العلمي الفقهي»، بالبداية لابد من التوضيح أن هكذا مجلس هو حاجة سوريّة ملحة، لكنه قد يكون في المكان الخطأ وبالوظيفة الخطأ، لأن هكذا مجلس وما سيكون له من دور كبير، لا يجب أن تنحصر تسمية أعضائه بوزير الأوقاف لأننا ببساطة سنفتح مجالاً للعديد من التساؤلات منها مثلاً: كيف يتم التوازن في تسمية أعضاء هذا المجلس ومن يضمن لنا ألا تكون للوزير سطوة ما على آلية التصويت، لماذا لا نفكر بتطوير الفكرة إذا كان همنا سورية الوطن فعلياً والوقوف بوجه الفكر الإرهابي المتطرف؟
ببساطة لنشكل هيئةً عليا بمرسوم رئاسي تضم من تضم من رجالِ دين وربما غير رجال الدين، لا يكون عملها محصوراً فقط بما يسمى فقه الفتاوى وغيرها لكن لتكون إحدى المهام المنوطة بهذه اللجنة أو الهيئة مثلاً متابعة كل الأملاك التي يتم استثمارها من وزارة الأوقاف، وتتعداها ليكون لها دور حيوي في الحركة الثقافية للبلد من ضمنها مثلاً مراجعة الكتب التي تحتويها مكتباتنا العامة وما يتناقض منها مع العقل وما يدعو منها للتطرف، أو حتى تلك التي تهاجم الأديان ومعتقدات الآخرين باسم العلمانية.
في الخلاصة: ربما كان من الممكن أن نتجنب الكثير من اللغط المُثار حول هذا القانون، لكن ببساطة قد تكون رب ضارة نافعة لأننا ببساطة اكتشفنا أن هناك فعلياً من يحاول باسم العلمانية إلغاء الآخر، وهناك من يحاول باسم الدين مصادرة الرأي الآخر، في كلا الحالتين علينا أن نقتنع أن ما يجري من تجاذبات مفيدة بمعزل عن الدعوات المشبوهة لمستثقفي الاستهلاك الفيسبوكي.
دعونا ببساطة نفكر كيف يمكن إرضاء الجميع بعيداً عن أي إلغاء لأي آخر، والفكرة بسيطة أعيدوا فقط صياغة علاقةِ الدولة بالدين، عندها فقط سأقتنع أنا المواطن البسيط أن دولاً كروسيا ومصر «هرولت» لتسرق منا التجربة التي لم يتجاوز عمرها أياماً!
فراس عزيز ديب ـ الوطن
Discussion about this post