«إنّ الولايات المتحدة الأمريكية لم تنشأ كوطن، وإنما نشأت كموطن، ولم تبدأ كدولة وإنما بدأت كملجأ» (محمد حسنين هيكل).
ولتحقيق فكرة «الموطن- الملجأ» كان لابدّ من إبادة الهنود الحمر؛ السكان الأصليين لقارة أمريكا لتعمر على أشلاء ضحاياها ودمائهم، ولتصير المستوطنة العائمة على بحرٍ من الدماء دولةً عظمى تُعنى بحقوق الإنسان، وتفتعل اليوم الحروب بذريعة «نشر الديمقراطية والسلام»..
فكيف لدولة انتهجت القتل والتنكيل والتهجير ألّا تقف اليوم في صفّ الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين؟ الكيان الذي مارس كل الجرائم: «مجازر- تهجير- هدم بيوت- مصادرة أراضٍ- إقامة مستوطنات- تلويث مياه- اعتقال الأطفال…» لتصدر الأمم المتحدة عشرات القرارات الصورية ضدّه.. بينما تبنّت أمريكا العلاقات الاستراتيجية والكيان المحتل، فكانت دائماً المشجّع لسياساته الاستيطانية وممارساته الإجرامية واعتداءاته التوسّعية.. ولم تكن مشروعات الولايات المتحدة الأمريكية، من مشروع «روجرز» إلى خطط كيسنجر وكلينتون واتفاقيات «كامب ديفيد» و«خريطة الطريق…»، إلا مشروعات تصفويةً للقضية الفلسطينية، رغم اعتمادها عناوين مخادعة عن السلم والسلام وحلّ الصراع، لتتّضح الرؤية بعد إعلان ما يسمى «صفقة القرن»، ولتكون المرحلة السياسية الصهيو-أمريكية في (مرحلة الوضوح السياسي)، فقد نضبت كل وجوه اللّف والدوران السياسي، وانتهت مراحل التمهيد، وحان وقت تقديم العطايا للكيان الصهيوني؛ «إسرائيل» الجانية التي ارتكبت –ولاتزال- جرائم الحرب بحقّ الشعب الفلسطيني، وتحت لحظ دول الاستعمار الغربي، تضيع حقوقه التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، بينما تتم شرعنة الاحتلال، وعدّ الكيان «نظاماً طبيعياً»، وهنا الانتهاك الأكبر الذي يتعدّى ألف مرّة بنود «صفقة القرن» التي امتدّت على 181 صفحة.
والرئيس الأمريكي الحالي الذي ارتبط اسمه على محرك البحث «غوغل» بكلمة «أحمق»؛ ربما كان حمقه مطلوباً في الصندوق الأسود للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق ما هو أبعد من وعود انتخابية، وربما استدعت الاستراتيجية الأمريكية الباطنة تصحيحاً فورياً في سياساتها الآنية خدمةً لمصالحها في الانعزالية «أمريكا أولاً»، فكان «ترامب التاجر» بقراراته وانسحاباته و«تغريداته» (حاجةً) وضرورةً سياسيةً!! وما كان منه ومن طاقم مستشاريه المتورطين في المشروع الصهيوني إلا تقديم «صفقة القرن» مشروعاً مفصّلاً على مقاس أحلام وآمال اليمين المتطرّف في الكيان الصهيوني، وتصفيةً نهائيةً للقضية الفلسطينية، وانتقاصاً من الحقوق الوطنية الثابتة في العودة وحق تقرير المصير وشرعنة الاحتلال الإسرائيلي..
و«فن الممكن» و«فن المفاوضات» هما سياساتٌ باتت من الماضي التمهيدي لمرحلةٍ كهذه، فقد كان إفشال اتفاقية «كامب ديفيد» يتطلّب عدم توقيع الجانب الفلسطيني على المعاهدة، أما كارثية المشروع «الصفقة» اليوم فإنها مجرّد إملاءاتٍ إجراميةٍ مفروضةٍ تعترف بيهودية «إسرائيل» والمستوطنات، وبالقدس «عاصمةً» للكيان، ولتكن أبو ديس أو شعفاط أو بيت حنينا عاصمةً للفلسطينيين، ويمكنهم إطلاق اسم القدس عليها…!! في انتهاكٍ واضحٍ وسافرٍ للمعاهدات السابقة والقوانين الدولية.
ليتم التحضّر الأمني في الكيان إلى ما بعد إعلان «الصفقة» لأنهم -على حدّ تصريح مسؤولهم الأمني- «سيتلمّسون توتراً أمنياً كبيراً وتصعيداً في الشارع الفلسطيني سيتطوّر على مدار فترة طويلة وليس بصورةٍ فوريةٍ…» ليكون الرهان الأقوى على سقوط «الصفقة».. وتلقّوا الامتحان تلو الامتحان من أصحاب الأرض والحق في فلسطين.
محمد البيرق: تشرين