يبدو أن خروج بريطانيا من عضويتها في الاتحاد الأوروبي بموجب «بريكست» لم يكن «طلاقاً» برضى الطرفين الأوروبي والبريطاني، بل كان انفصالاً رافقته إشكاليات وتحديات من الجانبين إلى أن جرى الاتفاق على القواعد النهائية للخروج والانفصال وبقيت مسألة حسم وتنفيذ الخروج، رهناً بنظام العمل السياسي الداخلي البريطاني والتصويت في مجلس العموم البريطاني، البرلمان، على تنفيذ خطة الخروج.
مراكز الأبحاث والدراسات البريطانية والإسرائيلية المشتركة مثل «المركز البريطاني الإسرائيلي للاتصالات والأبحاث – بيكوم» بدأت منذ وقت بتسليط الضوء على توصيات ومقترحات حول السياسة الخارجية البريطانية بعد «بريكست»، ونشر المركز أحدها في 28 تشرين الثاني الماضي قبل أيام تحت عنوان: «الاستراتيجية البريطانية في الشرق الأوسط بعد بريكست» تشير إلى أن «ورقة البحث هذه تعرض صورة إجمالية للسياسة البريطانية والقدرات العسكرية والعمليات والمساعدات التي يمكن تقديمها للمنطقة وتقدم التوصيات التي تراها حول سياسة وإستراتيجية بريطانيا في المستقبل».
تدعو هذه التوصيات إلى استخدام كل قدرات بريطانيا ونفوذها في الخارج لتحقيق مصالحها العسكرية والتجارية والدبلوماسية بالاعتماد على «منظمة الكومونويلث» التي ما زالت تديرها بريطانيا تجاه الدول التي استعمرتها في الماضي.
وتركز هذه التوصيات على «ضرورة زيادة الميزانية العسكرية البريطانية بشكل يزيد على نسبة 2 بالمئة من قيمة الناتج القومي الشامل لتغطية النطاق العملياتي في الشرق الأوسط»، وهذا يعني ببساطة زيادة حدة التنافس الاستعماري بطرق جديدة وبنظام عالمي جديد لاقتسام المصالح الاستعمارية الحديثة في عهد الإمبرياليات في منطقة الشرق الأوسط بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهي القوى الاستعمارية نفسها التي سيطرت خلال أكثر من قرن من الزمن على الساحات الإقليمية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وكانت دورة الاقتسام الاستعماري التقليدي التي شهدتها منطقة العالم العربي والشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية يراد الآن تجديدها بطرق مبتكرة بأيدي اللاعبين أنفسهم، ففرنسا تتجه هي أيضاً نحو تحقيق المزيد من النفوذ في مناطق استعمارها القديمة، ويبدو أنها ستصبح بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الدولة الأكبر في الاتحاد الأوروبي من دون منافس لأن ألمانيا لم تتحرر بعد من القيود المفروضة عليها منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، رغم أنها أكبر دولة أوروبية من ناحية القدرات الاقتصادية والمالية وبدأت تسعى إلى تعزيز دور الاتحاد لأنه يعوض في هامش سياسته الموحدة الخارجية عن ضيقها من القيود الخاصة بها، فقد طلبت من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يصبح مقعد فرنسا الدائم في مجلس الأمن الدولي وحق النقض الفيتو باسم الاتحاد الأوروبي وليس باسم فرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد وخسارة الاتحاد لمقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي ما دامت ستستخدمه لمصلحتها فقط حين تخرج من الاتحاد، لكن ماكرون لم يقبل أن تتخلى فرنسا للاتحاد عن هذا الامتياز الإستراتيجي في الساحة الدولية ووعد مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركيل ببذل جهوده للحصول على مقعد دائم لألمانيا في مجلس الأمن الدولي فيتم تعويض خسارة مقعد بريطانيا الدائم لمصلحة الاتحاد، ومع ذلك يعرف ماكرون وميركيل أن مهمة حصول ألمانيا على هذا الامتياز كقوة كبيرة سيفتح بوابات مطالبة اليابان بمقعد مماثل والهند القوة النووية الصاعدة وربما باكستان كقوة نووية عن الدول الإسلامية، وهذا سيعني إعادة تشكيل نظام عالمي جديد يلغي قواعد النظام العالمي الذي تأسس بعد حربين عالميتين أخيرتهما الحرب العالمية الثانية أي بعد عام 1945، وتوزيع المقاعد الدائمة الخمسة على خمس دول كبرى هي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، روسيا الاتحادية في وقتنا الراهن، والصين وبريطانيا وفرنسا، فهل ستنتظر ألمانيا زمناً طويلاً للحصول على هذا الامتياز؟
أما بريطانيا فسوف نشهد منها قريباً بموجب مركز «بيكوم» كثافة في التدخل في منطقة الشرق الأوسط، وستجد في إسرائيل قاعدة لتحقيق مصالحها في ظل موافقة أميركية على الدور البريطاني الجديد والأكثر فاعلية في الشرق الأوسط بشكل خاص لكنها ستصطدم بمحور المقاومة وتحالفاته الإقليمية والدولية في هذه الساحة من دون أدنى شك.
تحسين الحلبي – الوطن السورية
Discussion about this post