أساتذة الإعلام وطلابه يفقهون جيدا النظريات الإعلامية الشهيرة، بدءا من نظرية السلطة أو النظرية الليبرالية أو النظرية الاشتراكية، وصولا إلى نظرية المسؤولية الاجتماعية. وتهتم دراسات الاتصال الجماهيري بالدور الذي يقوم به حارس البوابة في تقنين المادة الإعلامية من حيث العرض أو الحجب أو التكرار، كذلك خاصية رجع الصدى أو التغذية العكسية في قياس مدى تأثير الرسالة الإعلامية على جمهور المتلقين. لكنني تيقنت من خواطر شخصية لم تناقش من قبل أن كافة علوم الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري، سواء كانت مقروءة أو مرئية أو مسموعة، أو الإعلام الجديد أو الإلكتروني، كذلك تنظير آداب المهنة، وميثاق الشرف الإعلامي وقواعده المهنية. كل هذا يندرج تحت النظرية القرآنية الفريدة، والآداب الإسلامية الراقية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} صدق الله العظيم.
يستند الاتصال الجماهيري إلى أربعة قواعد أساسية هي: المرسل؛ أي صاحب الرسالة، ثم الرسالة الإعلامية نفسها؛ أي المحتوى، ثم المتلقي؛ أي الجماهير، وأخيرا رجع الصدى؛ أي مدى تأثير المحتوى على المتلقين. تلك هي أسس الاتصال الجماهيري طبقا للدراسات الإعلامية، ومع شرح الآية الكريمة طبقا للتفاسير القرآنية ـ وإن كان سبب نزول تلك الآية الكريمة لحادثة بعينها، لكن مع اليقين التام أن القرآن الكريم هو رسالة هدى وإصلاح وتهذيب للنفوس وإعلاء للقيم والأخلاق لكل زمان ومكان ـ نجد أنها (الآية) تحذر من الفاسق بعينه في كافة وسائل الاتصال الجماهيري، ومعنى الفاسق هو الخارج عن حدود الله، وهو الذي يحيد عن طريق الحق، وهو في الرسالة الإعلامية المرسل والمصدر.. تخيل هذا الفاسق جاء بنبإ؛ أي رسالة إعلامية مغرضة ومضللة وكاذبة ومزيفة؟
هنا تأتي المسؤولية الاجتماعية والوعي المجتمعي {فَتَبَيَّنُوا} تلك الكلمة هي نظرية إعلامية متكاملة، تنبه كافة المتلقين لأية رسالة إعلامية، وتطلب منهم التبين والتبصر والتفحص، والتدقيق والتثبت والتحقق من الخبر، وهو ما يعرف حديثا بنظرية حارس البوابة، وهو الشخص أو المنظمة أو الحكومة، التي تقوم بعملية السيطرة على المعلومات. فحارس البوابة هو من يحدد نوعية الرسالة وهدفها وقوة تأثيرها، وهو السلطة القادرة على الاختيار والإضافة، كذلك الحجب والعرض والتوجيه والتشكيل، والتداول والتكرار والتجاهل، وهذا في الإعلام التقليدي.. {فَتَبَيَّنُوا} تلك الكلمة العبقرية، التي توجه على الخصوص، لما يسمى الإعلام الجديد الذي يقوم بنقل كافة الرموز، والمرئيات على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال أفراد دون قيود أو حواجز.. هذا الإعلام الجديد يلغي السيطرة، ويجعل الفرد من خلال مقعده يبث رسالته الإعلامية دون قيد أو تحكم من أحد، وهنا لا يوجد حارس بوابة ولا رقابة.
{أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} هم القوم الجاهلون باليقين، وعدم الدراية بالحدث؛ أي تنقصهم المعلومات، وهم في الدراسات الإعلامية ما يطلق عليهم المتلقون والمستقبلون للمحتوى الإعلامي، وطبقا لنظرية المسؤولية الاجتماعية التي تحتم على وسائل الاتصال أن تعمل وفق مستويات وتقاليد مهنية من الصدق والموضوعية والتوازن، وأن وظيفة الصحافة والإعلام هي مساعدة الإنسان في الوصول إلى الحقيقة التي تعتبر حقا من حقوقه، والقيام بالتوعية الاجتماعية على أكمل وجه؛ إنها المسؤولية التي تلزم تلك الوسائل بنشر الوعي والإدراك والتعلم، كذلك تنوير وتثقيف المجتمع حتى ينسلخ عنه الجهل والتسطيح والتخلف.
{فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} التفسير يعني الندم؛ أي الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، هو التحسر على مصائب لم تكن متوقعة، هو الكارثة عن جرم لم يخطر على بال، وهو ما يسمى رجع الصدى، سواء السلبي أو الإيجابي في الإعلام الأكاديمي، وهو العائد الانطباعي، وهو التغذية العكسية من المستقبِل إلى المرسِل، وهو الاستجابة للمؤثرات الحسية والعقلية والنفسية على ضوء العقل الباطن واللاشعور، ومن خلال العادات والتقاليد ونوع الحياة وثقافة المتلقي، هي المصائب والرزايا عندما يكون طرف الرسالة الإعلامية الخبيثة ومرسلها هو فاسقا ومحتالا ومغرضا مع قوم جهال، هنا يحق الندم، بعدما تشتعل الفتن وتتأجج الحروب، ويتناحر كل مع مواطنه، وتشتعل الحرائق وينتشر الدمار، هنا يكون الندم والحسرة.
البداية إعلام فاسق، سواء من فرد كان أو هيئة أو نظام، سنوات من الدراسات وأكوام من النظريات، وآلاف من معاهد فنون الاتصال الجماهيري، كل هذا تقابله آية واحدة تجب كل تلك النظريات الإعلامية، وتقنن معايير وأساليب ومواثيق مخاطبة الجماهير، وتحدد مفاهيم الرأي العام، والمسؤولية الاجتماعية، وضرورة إرساء نظم إعلامية وطنية صادقة، تعمل على طرح كافة القضايا التي تهم الجمهور بشفافية ومصداقية، حتى لا يلجأ الأفراد وجهلة القوم إلى مصادر أخرى، قد تسرب معلومات مغرضة، تضلل الوعي وتزيف الحقيقة…اتبعوا هدى الله لن تضلوا أبدا.
فوزي رمضان -صحفي مصري – الوطن العمانية