لقد سلطت التقارير الإخبارية الأخيرة الضوء على مدى لجوء المؤسسة الأمنية الصهيونية لمحاولة تغطية تاريخ جرائم الحرب التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. وقد أوضحت مقالة طويلة في الجريدة الإسرائيلية هآرتس في وقت سابق أن الكيان الصهيوني لديه قسم عسكريّ خاصّ مخصص لإزالة أنواع معينة من الوثائق من المحفوظات المتاحة للعامة. واسم الوزارة “مالماب” وهو اختصار عبري لـ”مدير الأمن في المؤسسة الدفاعية”.
كما أن الوثائق التي تم استهدافها للتغطية الرسمية تشمل على ما يبدو أي شيء يتعلق بالكارثة التي وقعت في النكبة، وهو الإنشاء القسري “لدولة” الاحتلال على الأراضي الفلسطينية، والتي شهدت قيام الميليشيات الصهيونية بطرد نحو 800 ألف فلسطيني بالقوة منذ عام 1947. ومنذ ذلك الحين، كان اللاجئون الفلسطينيون يخبرون قصصهم لكل من يستمع إليها.
ولكن نظرًا للمواقف الاستعمارية التقليدية في التعامل مع الشعوب الأصلية إلى حد كبير، فإن قصص اللاجئين الفلسطينيين كانت ولا تزال غير قابلة للتصديق عند الغرب غالبًا، لأن جزءًا من الصورة النمطية العنصرية التي تفرض على الفلسطينيين ـ بل والعرب عمومًا ـ يتلخص في أنهم تقريبًا يميلون وراثيًا إلى سرد الأكاذيب، حيث إنه من الاتهامات الشائعة أن تشتم شخصًا ما بأنه “عربي كاذب”.
والواقع أن الكيان الصهيوني، دولة استعمارية تسعى دائمًا وبكل ما تملك للترويج لنفسها عند الغرب على أساس أنها جزء من العالم الغربي. ذات يوم زعم رئيس الوزراء السابق إيهود باراك (الذي يسعى حاليًا للعودة إلى السياسة) أن الكذب سمة ثقافية للعرب، فهم لا يترددون في تكذيب ما هو قائم في الثقافة اليهودية المسيحية.
إن مثل هذه الخرافات المهينة للإنسانية عن الشعوب العربية لها عواقب وخيمة، كانت رواية الفلسطينيين لعقود من الزمان بأنهم تعرضوا للتطهير العرقي في عام 1948 غير واقعية للغرب، على الرغم من الأدلة الموثقة عن النكبة، بما في ذلك عمل المؤرخين الفلسطينيين وغيرهم من المؤرخين العرب الرائدين مثل وليد الخالدي وقسطنطين زريق ونور الدين مصالحة وعصام سخنيني.
إن الدعاية الصهيونية تكمن في أن الفلسطينيين تركوا بلدهم طواعية في الأربعينيات المتأخرة، وبطلب من زعماء عرب في كثير من الأحيان، كانت سائدة في العديد من التاريخ الغربي لعقود من الزمان. ثم في أواخر ثمانينيات القرن العشرين عندما بدأ المؤرخون الصهيونيين في النظر في الوثائق الصهيونية الرسمية المفتوحة حديثًا، كان ما وجدوه يؤكد في الأساس السرد الفلسطيني والعربي وأن عمليات الطرد والتشتيت حدثت بمنهجية ولم يغادر الفلسطينيون باختيارهم.
ورغم أن بعض هؤلاء “المؤرخين الجدد” مثل بيني موريس، زعموا أن عمليات الطرد كانت بمثابة حادث حرب تقريبًا، فإن آخرين من أمثال إيلان بابي أشاروا إلى وثائق رسمية تغطي “خطة دالت” و”ملفات القرى– التهجير القسري” لإثبات وجود نظام أكثر شمولية ولتنفيذ عملية متعمدة لإقصاء أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين خارج فلسطين.
مهما كانت الأسباب الكاملة وراء ذلك، لا أحد ينازع حقيقة أن “إسرائيل” جعلت هدفها الأساسي دائمًا منع اللاجئين وذريتهم من العودة. على حد تعبير أول رئيس وزراء إسرائيلي، دافيد بن غوريون: “يجب علينا أن نفعل كل شيء لضمان عدم عودتهم أبدًا“. ويوافق موريس كعنصري فخور على هذا الهدف في حين أن بابي المناهض للصهيونية لا يفعل ذلك. فقط بعد أن بدأ هؤلاء المؤرخون الإسرائيليون في المساهمة بالتاريخ، أصبحت الحقائق حول النكبة الفلسطينية أكثر قبولًا على نطاق واسع في الغرب.
والدرس الذي ينبغي استخلاصه من ذلك هو ضرورة الاستماع إلى الشعوب الأصلية المهجرة، وتصديقها في ما تذكره من وقائع لنزع الملكية الخاصة بها دون أن ننتظر حتى تعترف المجتمعات الظالمة، ولو جزئيًا، بذنبها.
ولكن الآن، وحتى هذا الاعتراف الجزئي والمشروط دائمًا، يجري تغطيته بشكل منهجي من قِبَل الكيان الصهيوني. وكما أوضح إيلان بابي ذاته في الأسبوع الماضي، فإن وحدة تغطية المحفوظات العسكرية في ملاب تزيل العديد من الوثائق التي اعتمد عليها هو وغيره من المؤرخين الجدد للكشف عن أسرار الكيفية التي سبب بها الاحتلال نكبة فلسطين منذ القدم حتى الآن، بما في ذلك قبور الأطفال والإبادة الجماعية وحالات الاغتصاب.
وقد تم بالفعل الإبلاغ عن محتوى هذه المستندات في الكتب والمقالات، وفي حالات كثيرة تم نسخها أو مسحها أو حفظها رقميًا. ولكن كما لاحظت هآرتس بعد مقابلة الرئيس السابق لوحدة التغطية، فإن الهدف يتلخص في تقويض مصداقية الدراسات حول تاريخ مشكلة اللاجئين عندما لا يمكنهم منع إدلاءات بعض الباحثين المستندين لوثائق أصلية.
ورغم أن تحقيق هآرتس كان سببًا في جذب انتباهنا للجهود التي يبذلها مالماب لإخفاء الحقيقة، فإن هذا يحدث في واقع الأمر طيلة القسم الأعظم من عقدين من الزمان. ولقد أشار بابي إلى أن “هؤلاء الذين يتعاملون مع وثائق النكبة كانوا يدركون نقص الملفات”. على سبيل المثال، ظل المؤرخون لسنوات عديدة عاجزين عن إعادة النظر في ملفات القرى، التي شكلت دليلًا مهمًا على أن حرب 1948 كانت عملًا من أعمال التطهير العرقي.
وفي محاولة لإخفاء الحقيقة، يتعين على الكيان الصهيوني أن يدرك أن الأوان قد فات، لأن الحقيقة تنكشف عن تغطيتها لحقائق النكبة دون أن تتلاشى خلف ستارهم في أي وقت قريب، مهما بلغت قدرة المستعمرة الصهيونية وأقسامها للتعامل مع هذه الحقائق.